حلقات يوميه على اليوتيوب
طوال آلاف السنين لاحظ البشر أن أسبابًا صغيرة يمكنها أن تُحدِث نتائج كبيرة غير متوقعة.
فما الذي يستطيع فعله أحد البشر، او رئيسا مثل ترمب، عندما يجد نفسه، على حين غرة، أمام مشكلات كثيرة ينبغي في ظلِّها إتخاذ قرار ما؟
هذا ما يواجهه ترمب اليوم و هو على راس النظام الدولي الذي يتعرض للتهديد، و كما للعلاقات الإنسانية تفاعلات و نظريات و قرارات و تداعيات، فللعلاقات الدولية تفاعلات و نظريات و قرارات و تداعيات .
و من نظريات العلاقات الدولية “نظرية الفوضى chaos theory، التي تمتلك في حافتها ما يسمى التنظيم الذاتي self-organization الذي يشير لإمكانية إنبثاق النظام من داخل الفوضى”.
و قد عبَّر عن هذا المعنى العلمي للفوضى المؤرخ الأمريكي هنري أدامز (1918-1858 ) بقوله: الفوضى غالباً ما تولِّد الحياة.
“فنظرية الفوضى لديها منطقة تشعُّب bifurcation او فوضى عميقة deep chaos تصف بدقة الحدث الفاصل بين الفوضى والنظام الذي يشكِّل مستقبل مجتمعاتنا المعاصرة”.
فعندما تمر منظومة ما بحالة و جوم كما هو حال النظام الدولي اليوم، فإن حالة “جاذبة (attractor) تقود مساراتها و في نقطة التحول و التشعُّب داخل الفوضى تُصنَع الخيارات أو الممكنات المستقبلية للمنظومة و تُدفَع إما إلى حالة من نظام جديد new order عبر التنظيم الذاتي أو إلى الفوضى من جديد”.
إن هذا النوع من المفاهيم غير التقليدية يقوم على “مبدأ حساسية التأريخ بالمفهوم الواسع لكلمة التأريخ؛ أي للشروط التي تحكم بدايات الأحداث قبل تسلسلها”.
“فأي تغيير في هذه الشروط الأولية-مهما كانت ضآلته-يمكنه أن يؤثر تأثيراً غير محدود على تداعيات الأحداث، و من ثَم على الناتج المرحلي لرحلة التأريخ”.
“كما يقوم هذا المفهوم على مبدأ عدم القُدرة على التنبؤ و الإستشراف؛ إذ حتى لو تطابقت الشروط التي تحكم بدايات العمليات التأريخية فإنه لا شيء يضمن أن تتخذ رحلات التأريخ نفس المسار”.
“فلو عادت بنا الأيام إلى الوراء قرناً أو بعض قرن فلا شيء يضمن أن تنتهي رحلة التأريخ المعادة إلى محطتها التي نقف عليها الآن، و هو مبدأ يتناقض مع ما يُثار من إدعاءات بنهاية التأريخ و الوصول للمحطة الأخيرة”.
“فالتأريخ لا يحكمه مبدأ رحلة لمحطة وصول؛ فمحطة الوصول هذه دائمة الإنتقال و التغير بتغير المعطيات”.
“لذا فإن الرحلة بدورها لا تبدو لنا فيها نقطة نهاية، بل حلزون تأريخي قد يُذكرنا بجوهر فلسفة هيجل المتجاوزة للمادية السببية الصلبة و فكرة التقدم الحداثية الخطية”.
و من أمثلة هذه المفاهيم مقتل ولي عهد النمسا التي أدت للحرب العالمية الأولى، و مسمارٍ سقط من حذوة فرس، فانزلقت الحذوة كلها بعد حين فتأذى الحصان فتوقّف عن الجري فتأخر الفارس عن تسليم رسالته للجيش فخسر الجيش و ضاعت المملكة.
فأي البلاد قد تضيع في ظل حقبة دولية تقول عنها دوائر الأكاديميا و السياسة و الإعلام الأوروبية والأميركية إنها حقبة من وجوم و توجس تماثل الحقبة التي سادت قبل الحرب العالمية الثانية.
و من شان هذا الوجوم الدولي ان يقود لفوضى فيحتاج من يقود النظام الدولي اليوم أن يُبادر إلى آليات و تحالفات توازن قوى دولية، بعد أن تغيرت أهداف و أنماط صراع وحدات النظام الدولي و هددت النظام الدولي.
هانز مورغانثو يؤكد ذلك فيقول أن “الأمم ترغب دائماً للتفوق من داخل إطار نظام توازن القوى لغرض التأثير في نظام الأمر الواقع، ولا بد من مرحلة الفوضى أن تعم النظام الدولي قبل ظهور توازن جديد للقوى.
و بناءاً على فرضيات مورغانثو، “فالمُمسك بزمام النظام الدولي الذي يحتل المركز الرئيسي في توازن القوى و القادر على ردع وت حديد اى صراع، أن يُبادر الى تحالفات مع الدول الوطنية الممتلكة للقوه، أو مع تحالفات لحفظ السلم “.
فالأمن الجماعي الذي كان يقوم عليه مجلس التعاون الخليجي او الإتحاد الأوروبي ربما فات وقته اليوم بعد أن إختلفت دول الأمن الجماعي حول الأخطار المشتركة التي تهددها.
و دول الأمن الجماعي لم تكن تعمل على وضع نظام جديد لتوازن القوى، و لكن للتعبير عن وجوده في حين أن تحالُفات توازن القوى الجديد المُحتمل تشكلهُ دول ضد دول أخرى أمثال التحالُفات الدولية 1991 و 2003 و 2014.
فنظام توازن القوى الذي يُنظِّر له كيسنجر و ينفذه ترمب ليس غاية مُستهدفه و لكنه مرغوباً بقدر ما يحفظ للدول سيادتها و من ثم يُحقق مصالحها ، في وقت يتعرض فيه النظام الدولي للتهديد.
و من هنا يعتقد مورغانثو أنه إذا “فشلت سياسات الإحتواء للصراع، فذلك فى حد ذاته مُبرر لقيام و ممارسة سياسة توازن القوى العالمي”.
و يُشير في عرضهِ لتصوراته لنظرية توازن القوى أن “العلاقات الدولية تقوم أساساً على ديمومة الصراع و إستمراره و هو ليس مثل منطومات الأمن الجماعي”.
فهل يقوم ترمب بتاسيس بنية تحتية لتحالفات توازن قوى عالمي جديد من خلال إحداث فوضى بإنسحابات متعددة مُذ تولى إدارة البيت الأبيض، أذهلت خصومه و حلفاءه؟
و كان من آخر قراراته لإحداث الفوضى المطلوبة بعد إنسحابه من نووي إيران و إتفاق المناخ و من 19 إتفاق آخر، إنسحاب في تشرين الأول من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا الموقعة في 1987، ثم الإنسحاب من أفغانستان و سوريا نهاية كانون الأول 2018.
فإنسحاب ترمب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا، قد يشبه إنسحاب ترمب من إتفاق لوزان النووي، كما إن إنسحاب ترمب المزدوج من أفغانستان و سوريا قد يشبه إنسحاب اوباما من العراق نهاية 2011.
و في الوقت الذي رحبت فيه روسيا بإنسحاب ترمب المزدوج من أفغانستان و سوريا، وصفت قرار ترامب بالإنسحاب من معاهدة 1987 النووية بأنه قرار خطير.
و قد قال مصدر روسي لوكالة ريا نوفوستي الحكومية ” أن أمريكا تحلُم بأن تكون القوة الوحيدة المهيمنة على العالم، و هذا هو الدافع الرئيسي لإنسحابها من الإتفاقية”.
و إعتبر السناتور الروسي أليكسي بوشكوف في تغريدة على تويتر أنّ قرار ترامب بالإنسحاب من المعاهدة هو “ثاني ضربة قوية تتلقّاها منظومة الإستقرار الإستراتيجي في العالم” بعد إنسحاب واشنطن من “معاهدة الصواريخ المضادة الباليستية” (معاهدة أي.بي.أم) في 2001
لكن ترمب قال إنّ “روسيا لم تحترم المعاهدة، و إنّنا سننهي الإتفاقية و سنطور هذه الأسلحة و لن نسمح لهم بإنتهاك إتفاقية نووية و الخروج و تصنيع أسلحة في حين أنّنا ممنوعون من ذلك، نحن بقينا في الإتفاقية و إحترمناها و لكن روسيا لم تحترمها للأسف.
كما إن صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن مسؤولين أميركيين و دبلوماسيين غربين قولهم إن “الولايات المتحدة تُريد الإنسحاب من المعاهدة لمواجهة زيادة النفوذ العسكري الصيني في منطقة المحيط الهادئ.
فالصين كما تنقُل الصحيفة ليست طرفاً في المعاهدة، و لذا فهي غير ملتزمة بعدم تطوير صواريخ متوسطة المدى.
قد ردت الصين على إنسحاب ترمب من معاهدة 1987 بالقول إن هذه الإتفاقية تسهم فى الحفاظ على توازنات إستراتيجية في القوة، وأن الإنسحاب الأمريكي بشكل أحادي خاطئ و سيكون له آثار سلبية كثيرة، و أن الخطأ الأكبر هو ربط سبب هذا الإنسحاب بالصين.
و إنضمت حليفته أوروبا لروسيا و الصين إزاء خطط ترمب من الإنسحابات الثلاث، و دعت إلى التدخل و الحيلولة دون تسلح جديد بصواريخ متوسطة المدى، و عدم فتح الباب أمام فوضى سورية قد تجعل اوروبا في عين عاصفة مزدوجة.
و فزع أوروبا المزدوج قد يكون مبرراً فهي قد تكون المتضرر الأكبر من إنسحابات ترمب الثلاثية، فعودة هذه الصواريخ إلى أوروبا ستؤثر على أمن أوروبا، فالأمريكان سوف ينشرون صواريخ المتوسطة المدى في أوروبا بدون إذن.
فإنسحابات ترمب الجديدة و القديمة قد تقطع الطريق بعد أن شاخت أوروبا، على روسيا و الصين لمنافسة أميركا على الزعامة الدولية و منافستها في أوروبا و الشرق الأوسط، و تدفعها بنفس الوقت للتساوم معها حول شروط تحالفات توازن الحقبة الجديدة.
إنَّ ترمب يتصرف سياسياً كرجل اعمال، يركّز على منافسة الخصوم الكبار بوتين والصين وأوروبا ويترك المشاريع الآخرى لحلفاء محليين لتقليل التكاليف عملا بقاعدة التكاليف أقل من المنافع.
هذه السياسة الترمبية قد تكون أحدى أفكار هنري كيسنجر (الذي يتواصل معه ترمب)، و التي تنص على إن إعادة التوازن الى العلاقات الدولية المضطربة يحتاج الى فوضى تؤدي الى صراعات لا يمكن أن تستقر الا بمساومات مع الولايات المتحدة.
و من هنا فترمب يساوم بإنسحاباته الصين و روسيا و أوروبا لرسم وجود أميركي فاعل دولياً بعد أن عجزت أوروبا عن التسابق الجيوسياسي و تمددت روسيا و الصين و إيران أكثر مما تسمح به أميركا.
لكن لترمب له حسابات أخرى من إنسحاباته المُتتالية، غير الصين و روسيا و إيران و أوروبا، فحسابات ترامب ترتبط بالإنتخابات الرئاسية القادمة، مع حلول 2019 و إنطلاق سباق الترشيحات الفعلي.
و هذا يعني إن ترمب يقود العربة و لخصومه في الداخل و الخارج العجاج، و عليهم إعادة تكييف أنفسهم مع قرارته، ريثما يُعيد تشكيل العلاقات و التوازنات داخل النظام السياسي الأميركي و في ملفات الأمن القومي و السياسة الخارجية.
فترمب يفرض نفسه بمبدأ البُعد الفردي individual level analysis الذي يتغلب على البُعد المؤسس الأميركي institutional consolidation، و قد إختلف معه في الأزمة الخليجية و الأوروبية و الشرق أوسطية.
و نهج ترمب الداخلي و الخارجي هذا قد يضعه مع قائمة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، و معه تعدو المراهنة على إسقاط ترمب داخلياً و خارجياً مُراهنة خاسرة، و على الخصوم و الحلفاء، تحضير أنفسهم لشروط توزانات القوى الدولية الجديد.
الكاتب د.عمر عبدالستار محمود