حلقات يوميه على اليوتيوب
من أجل أن نتلمس إتجاه بوصلة ترمب في الشرق الأوسط، لابد من التعرِّف على عقلية ترمب، منذ كان رجل صفقات تجارية و عقارية، قبل أن يكون رئيسا للولايات المتحدة الأميركية.
فقد نقل ترمب حقل العلاقات الدولية من حقل الصراعات و التحالفات، الى حقل الصفقات الدولية، و “خصخص فيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة”، بمجرد وصوله للبيت الأبيض ك2 2017.
و خصخصة السياسة الخارجية و نقل حقل العلاقات الدولية الى “إدارة إعمال علاقات دولية”، قد يجعل إمكانية إنتقال العلاقة بين أميركا و الأطراف الدولية، حليفة كانت او منافسة او عدوة، من الصداقة للعداوة و بالعكس.
فقد يكون لترمب و هو زعيم أقوى دولة في العالم، نشأ و تطور في ظلها علم العلاقات الدولية، تأثير جوهري على نظريات العلاقات الدولية و دلالاتها، حتى لو كانت هذه حقبة “إدارة اعمال العلاقات الدولية” حقبة إنتقالية.
و معرفة سبب هذا التحول الترمبي، و إنعكاساته على السياسة الخارجية و على الدولــة الأميركية العميقــة في الخارجية و البنتاغون و المخابرات و الكونجرس، يُعدُّ أمراً جوهرياً.
فأميركا معروف عنها قبل ترمب إنها “الدولـة التـي يمكـن أن تكـون من أكثـر داعميـك، لكنها قد تكون من أكثـر الـدول خطـورة عليـك، فـي حالـة تحـّول التوجهـات أو تغيــر الإدارات”.
فكيف ستكون في عهد ترمب و هو يقود البلاد بعقلية”project man و single mind” و رابطاً السياسة بالإقتصاد؟.
الجواب على هذه الاسئلة قد يأتي من “مناهج العلـوم السياسـية التي تؤكــد أهميــة معتقدات رئيــس الدولــة فــي إدارة البلاد داخلياً وخارجياً”.
و هذا قد يضع ترمب ضمن سلسلة الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، في وقت تجتاح أميركا و العالم بأسره، موجة يمينية متصاعدة تبشر بإنهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
و هذه الموجة الإستثنائية قد تحتاج رئيساً إستثنائياً مثل ترمب، لمواجهة مشهد مماثل للوضع الذي كانت عليه قبل إندلاع الحرب العالمية الأولى و الثانية.
فقد وصل الصراع على زعامة النظام الدولي لطريق مسدود، بين الصين و روسيا و هما يواصلان الصعود من جهة، و بين الولايات المتحدة التي تُعاني من حالة تراجُع، رغم إستمرارها على قمة النظام الدولي.
كما إن الصراع بين الولايات المتحدة و إيران قد وصل هو الآخر الى طريق مسدود بعد تجاهل الولايات المتحدة لتمدد إيران، التي نقلت هي الأخرى حقل العلاقات الدولية من حقل الى حقل.
فقد نقلت إيران حقل العلاقات الدولية من علاقة دولة مع دولة الى علاقة دولة مع عوامل غير دوليتة دينية موازية للدول و عابرة للحدود الدولية و معادية للنظام الدولية.
حتى هددت إيران بإرهاب هذه العوامل حديقة أميركا الخلفية في أميركا الجنوبية، فضلاً عن اوروبا، مروراً بالشرق الأدنى و الأوسط و الأقصى.
فنقل ترمب اذن حقل العلاقات الدولية من حقل الى حقل جديد، يتناغم مع الإضطراب و الفوضى الحاصلة في العلاقات الدولية.
و هذا الإنتقال الأميركي، قد يكون تحويلة مؤقتة، مثل التحويلة المؤقتة التي طرأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
أي إنه “لــن توجــد علاقــات دولية مســتقرة طويلــة المــدى، و إنمــا علاقــات مســتقرة قصيــرة المــدى، حسـب كل مشـروع أو صفقـة”.
أي أن نمـوذج ترمب فـي “إدارة أعمـال العلاقـات الدوليـة”، قد يعني إن توجهـات و تغريدات و قرارات ترامـب قـد تفاجـئ الجميـع حُلفاء و أعداء، وفق أســس المصالــح المباشــرة قصيــرة المــدى. و قد يكون لهذه (التحويلة المؤقتة المفترضة) إنعكاسات، يمكــن أن تؤدي إلــى إصطــدام بجدار هنا او هناك(حرب مثلاً)، ضمن العاب إســتراتيجية خطــرة مع أطــراف ينبغي أن تُدرك سياقات و دلالات و إنعكاسات ما تقوم به (إيران مثلاً).
و قد قالها ترمب ليلة زار قاعدة عين الأسد الجوية غرب الأنبار، التي قد تكون قريباً (قاعدة محورية في المنطقة)، “دون أن يلتقي مسؤولاً عراقياً، اذ قال “كيف ننفق 7 ترليون دولار في مكان ثم نذهب سراً إليه”؟ فتغلُّب “المبدأ الفردي” و “توقع ما لا يُتَوقع” في سياسة ترمب الذي يتغلب على “مبدأ المؤسسات” و إتخاذ قرارت مفاجئة، منها مثلاً قرار الإنسحاب من سوريا، قد أزعج الحُلفاء (والخصوم)كما تقول وول ستريت جورنال.
فمن كان يتوقع أن ينسحب ترمب من صفقة النووي و المناخ و يعقد صفقة مع كيم جون اون و يزعج الناتو و باقي حلفاءه و الإتحاد الأوروبي بدفع ثمن الحماية، و ينسحب من سوريا و يزور العراق سراً؟ لا أحد!. و من كان يتوقع أن يكون قرار الإنسحاب من صفقة النووي مُتزامناً مع قرار نقل السفارة للقدس، و هو قرار يخُص صفقة القرن المرتقبة، مع قرار الإنسحاب من النووي؟ لا احد!.
و من كان يتوقع مثلاً، إن صفقة إنسحاب اوباما أمام إيران في 2011، أدت لصفقتين كبيرتين، واحدة بين اوباما و الصين، و أخرى بين إيران و بوتين بنفس العام؟ الجواب أيضاً لا احد!. اذن ترمب يخوض حرب صفقات دولية تخص صراعه مع إيران من جهة، و مع روسيا و الصين من جهة أخرى، فالصين و روسيا تتقارب معهما إيران، كما يتقارب معهما ترمب أيضاً.
فترمب قد حَيّد الصين عن صراعه في الشرق الأوسط مع روسيا و إيران، و قطع العلاقة النورية بين كوريا الشمالية و إيران، حين عقد بوساطة الصين صفقته مع كيم جون في الشرق الأقصى ، ليتفرغ للشرق الأوسط.
كما إن المُرابطة الأميركية عند أبواب الصين التي يقودها و لم يزل كيسنجر منذ 1970، قد أثمرت منذ ذلك الحين مروراً باوباما و ترمب إنجازات كثيرة.
فمرابطة كيسنجر عند باب الصين قد أثمرت سقوط السوفيت بعد سحب الصين من المعسكر الشيوعي، و ربط الصين إقتصادياً بالنظام الدولي الذي تقوده أميركا.
و مرابطة اوباما الذي إنسحب من الشرق الأوسط أمام إيران 2011، عند باب الصين، أثمرت مُرابطته مُبادرة الحزام و الطريق التي أعلنها الرئيس الصيني في عام 2013. و مبادرة الحزام و الطريق حزام جيو إقتصادي اورواسي يربُط اسيا بأوروبا و يحاصر روسيا، كما أن صفقة ترمب مع كيم جون اون، قد تُثمر عن نتيجة منتظرة مع إيران في الشرق الأوسط. وهذا المرابطة الأميركية عند باب الصين التي كانت أساسا لإسقاط السوفيت، تعود من جديد لتضرب عصفورين بحجر واحد.
فإن كان كيسنجر قد ذهب في السبعينيات لربط الصين بالنظام الدولي مُقابل تخليها عن المعسكر الشيوعي، يعود ليرابط عن باب الصين في 2011 و 2018، مُقابل مكانة دولية بارزة للصين في حقبة ترمب الدولية الجديدة. لعل هذه المرابطة أن تساهم في التساوم مع بوتين على الصفقة الروسية الإيرانية التي أبرمها بوتين و خامنئي في 2011 أيضا.
فقد ربط بوتين إيران بمعسكره بصفقته مع إيران، وضرب بها أكثر من عصفور بحجر واحد.
إذ دفع بوتين إيران لتصدير نفطها للصين و ليس لأوروبا، و ضرب أوروبا مرة أخرى بتسونامي المهاجرين الناتج عن إرهاب إيران في سوريا، و أوقف إنتقال الفوضى لحديقته الخلفية من خلال دعم إيران في تمددها في الشرق الأوسط.
و صفقة بوتين-خامنئي هذه، تعدُّ خسارة صافية للولايات المُتحدة، فقد جعل من إيران دجاجة تبيض له ذهباً، و إن أرادت أميركا دفع الثمن الباهظ لبوتين فبوتين جاهز، و قد وصلت رسالة بوتين المشفرة للبيت الأبيض.
و مضمون الرسالة، إن رأس خامنئي يمكن أن يُباع في سوق الصفقات الدولية، اذا لم يتمدد الناتو شرقاً و لم يدعم الغرب الثورات الملونة، و لم يتحدث الغرب عن حقوق الإنسان في روسيا، و مُنحت روسيا مكانة دولية، و هذا يحتاج الى صفقة روسية-أميركية.
و بوتين يبحث أيضا عن فك رقبته من حصار مزدوج عسكري و إقتصادي، يقوم الناتو بالشق العسكري منه، و يقوم طريق الحرير بالشق الإقتصادي منه.
لكن هذه الصفقة قد تحتاج الصين كما تحتاج اوروبا، فلماذ لا يعقد ترمب صفقة ثلاثية او رباعية كبرى مع الصين و روسيا و اوروبا، و لو كانت (صفقة مؤقتة) وفق مبدأ الصفقات قصيرة المدى.
إن من شأن هذه الصفقة الكبرى المفترضة، أن يضرب بها ترمب صفقة النووي مع إيران و صفقة بوتين و خامنئي، و يبرم صفقة القرن بين العرب و إسرئيل، فيتجرّع خامنئي كأس السُمّ مثلما فعل ريغان مع خميني؟
لكن مثل هذه الصفقة الكبرى، قد تحتاج الى حرب شرق أوسطية (مركزها سوريا: إيران) وهذه قد تكون أكبر من حرب البحرية الأميركية مع بحرية الحرس الثوري في 1987، التي أثمرت عن تجرع خميني كأس السُمّ في 08/08/1988.
فإنْ لم يفعل فقد يفلت الزمام من يد ترمب، في الشرق الأوسط، و إن فلت في الشرق الأوسط من مدار أميركا الى مدار خصومها، قد يفلت في الشرق الأقصى و الأدنى، و تفلت زعامة أميركا للنظام الدولي كله، و هذا ما لا يمكن أن تسمح به الولايات المتحدة الأميركية.
فالشرق الأوسط منطقة ثروة و ثورة و صراع هيمنة، ليس بين ترمب و خامنئي فحسب، بل بين روسيا و أميركا، كما كان منذ اللعبة الكبرى في 1829 بين بريطانيا العظمى و الروس.
و هناك فرصة كُبرى اليوم لمواجهة إيران بعد إنتهاء داعش، و دخول إيران حقبة عقوبات غير مسبوقة تحت شروط بومبيو، إذْ امست بين سيناريو التغيير بالعقوبات و إنفجار الوضع الداخلي، او سيناريو التدوير بقبول شروط بومبيو.
و قد تبيّنت الحدود و المحاور بين معسكري الحرب في الشرق الأوسط، محور التحالف الدولي الذي بدأ مرحلته الثانية او يكاد، و محور إرهاب نظام و هلال ولاية الفقيه.
و ما على بوتين في هذه المواجهة المُفترضة التي قد تبدأ في سوريا و تنتقل الى إيران، الاّ أن يتحسس موضع أقدامه و يحسب حساب الربح و الخسارة في حرب الصفقات الدولية الكبرى.
وكما أن بوتين والصين قد يربحون مكانة دولية، فقد يربح ترمب مرتين بهذه المواجهة المفترضة مع إيران.
ففضلا عن وقف الفوضى في النظام الدولي، والإنتقال الى حقبة دولية جديدة، فإنّ تخلي بوتين المفترض عن إيران، قد يُحول إيران بعد (الضربة: الصفقة المحتملة) من عدو الى حليف أميركي محتمل، وفق مبدأ الصفقات الجديد.
الكاتب د.عمر عبدالستار محمود