حلقات يوميه على اليوتيوب
من المستحيل إحلال نخبة سياسية محل أُخرى وتغيير بوصلة الإتجاه في العراق، دون إشغال النُخبة الجديدة محل القديمة في بنية ومديات ومستويات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. لكن هذا الإحلال قد يحتاج الى ثورة اوإنقلاب دموي او حرب هيكلية لم يعد مشهد العراق المحلي والإقليمي والدولي يسمح به. كما ان هذا الإحلال الذي بات حاجة ضرورية للعراق بحاجة الاّ يكون ايضا مشابه لمشهد حروب مُلاّك السلطة منذ مجلس الحكم حتى عادل عبد المهدي، اذ يتبادلون السلطة مع إستمرار نهجها الذي لم يعد المشهد يقبل به ايضا.
ولم يبق أمام إحلال نخبة مكان أُخرى وتغيير بوصلة اتجاهها سوى ما يُسمى في العلاقات الدولية (حروب سلطة) او (إنقلابات فنية إصلاحية) تطيح بالسلطة الحاكمة تدريجيا، كما في تصنيف جيمس روزيناو للثورات( حروب ملاك: حروب سلطة: حروب هيكلية). لكنّ هذه الإنقلابات (الفنية) قد تؤدي الى (إنقلابات مُعاكسة) تقوم بها نخبة السلطة الحاكمة، فيدخل البلد في معترك جولات (حروب سلطة)، فتنجح واحدة وتفشل أُخرى او العكس، حتى تتخلخل بُنية السلطة الحاكمة بفعل الضغط الداخلي والخارجي.
ويبدو أن وصول الكاظمي لموقع رئاسة الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة في العراق يوم ٧-٥-٢٠٢٠ قد إفتتح باب الجولة الأولى من جولات الحروب ( الإنقلابات الفنية) على السلطة في العراق. كما إن إقتحام الخضراء المُسلح من قبل كتائب حزب الله ليلة السادس والعشرين من حزيران ٢٠٢٠ بعد إقتحام أحد مقراتها، الذي عززوه بإغتيال الشهيد هشام الهاشمي، كان الإنقلاب الفني المُعاكس او الرد على حرب الجولة الأولى. كما يُمكن أن نصف زيارة محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران غير المعهودة لبغداد مصحوبا بجدول زيارته غير المعهود ايضا، هو إنقلاب فني مُعاكس لجدول زيارة الكاظمي للرياض و واشنطن الذي يعد جولة ثانية من جولات الحرب على السلطة في العراق.
فقد صرح عضو لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان مختار الموسوي إن زيارة ظريف غيَّرت برنامج الطرفين في بغداد و الرياض، كما إن المجلس الأطلسي قد ذكر أن زيارة ظريف لبغداد جرت في وقت غير ملائم و إستهدفت تخريب التقارب بين العراق و السعودية. كما إن كلمات خامنئي في لقاءه بالكاظمي قد حملت رسائل متعددة فقد قال: إن إيران لا تتدخل في علاقات العراق بأميركا، لكنَّ الجمهورية الإسلامية تتوقَّع من الأصدقاء العراقيين معرفة أميركا وإدراك أن الوجود الأميركي في أي بلد هو مصدر للفساد والدمار.
وأضاف خامنئي إيران تتوقع أن يُتابَع تنفيذ قرار الحكومة والشعب والبرلمان( رغم إن قرار البرلمان صدر عن أحزاب إيران فقط و إن إنتفاضة تشرين رددت إيران برة برة) بطرد الأميركيين فوجودهم مخلٌّ بالأمن والاستقرار. وهذه الكلمات حملت طبعا دلالات مهمة كونها أوامر لأنصار ولاية الفقيه في العراق بالدرجة الأولى، الذين حشَدَّهُم بالحديث عن مقتل سليماني، مشفوعا بالإنتقام من الولايات المتحدة. قال خامنئي: إن جريمة اغتيال أميركا للفريق سليماني والمهندس نموذج على نتائج وجود الأميركيين في المنطقة، لقد قتلوا (ضيفكم) في داركم (سليماني لم يكن ضيفا) و إعترفوا بهذه الجريمة بشكل صريح.
فان كانت زيارة ظريف قد عطلت بشكل غير مباشر ربما او أجلت او ألغت زيارة الكاظمي للرياض، فإن رسائل خامنئي قد عطلت ربما او اجلت او ألغت ربما زيارة واشنطن. او جعلتها على الأقل محفوفة بتحفيز سلسلة الإنقلابات و الإنقلابات المُعاكسة، او مواجهة تحديات تصاعد الهجمات المسلحة ضد القوات الأميركية التي إستمرت؛ إستمرت وأدخلت العراق مُعترك الحرب على مقاليد السلطة دون أن يشهد هذا المُعترك على الأقل في بداياته، مشهد الإنقلابات العسكرية او الحروب الهيكلية او الثورات الكبرى ، و دون أن يكون مشابها لتبادل المواقع بين قيادات الإسلام السياسي الشيعي (ملاك السلطة).
و عليه فإن إستمرار الكاظمي في السلطة بعد جولتين من جولات الحرب على السلطة على أبوب المائة يوم الأولى، دون الإطاحة به او دون تقديمه الإستقالة او دون الرضوخ التام للنخبة السابقة، ربما يعد مؤشراً، مقبولاً، رغم أن بعض هذه الإحتمالات او كلها قد تكون واردة. وربما اطلق الكاظمي (شرارة) انقلاب ثالث فني باعلانه عن موعد الانتخابات المبكرة في السادس من حزيران القادم، الذي قد يعني موافقته على حل البرلمان وفق المادة ٦٤ من الدستور ورمي الكرة في ملعب البرلمان واحزاب الاسلام السياسي الشيعي لاحداث تداعيات وردود قد يكون منها إنقلاب (معاكس)بالصورة التي تراها مناسبة.
وقد يكون الانقلاب المعاكس سحب الثقة من الكاظمي او دفعه للاستقالة دون حل برلمان تهيمن عليه احزاب الاسلام السياسي الشيعي، فتتحول حكومة الكاظمي الى حكومة تصريف اعمال دون اجراء انتخابات مبكرة، فيخرج الكاظمي من المعادلة ونعود لمربع عادل عبد المهدي. وهذا الانقلاب المعاكس قد يكون واردا رغم ترحيب جنين بلاسخارت مسؤولة اليونامي في العراق بموعد الانتخابات المبكرة ، و لسرعة رد فعل رئيس المجلس الذي دعا لموعد ابكر وتنفيذ المادة ٦٤ من الدستور. ويبدو من رد الحلبوسي السريع ونعيم العبودي النائب عن عصائب الخزعلي الذي وافق على خطوة الكاظمي انّ الفريق المقابل قد استعد لهذه الخطوة، خاصة وانها كانت بعد زيارة ظريف وبعد عودة الكاظمي من طهران مغضوبا عليه من طهران.
وقبل انتظار تداعيات انقلاب الكاظمي الفني الثالث، نحتاج ان نسال، هل يُعدُّ وصول الكاظمي للسلطة إنقلاباً فنياً او جولة اولى من جولات الحروب على السلطة؟ و هل إقتحام الخضراء كان إنقلاباً مُعاكساً لإنقلاب الكاظمي، وهل زيارة ظريف كانت إنقلاباً إقليميا آخر، وهل ماجرى ويجري هو حروب ملاك ام حروب سلطة؟ يختلف الناس في تقييم الكاظمي فمنهم قادحٌ بافراط ومنهم مادحٌ بتفريط مثل طبيعة العراقيين ونفسيتهم (الانقلابية)، ومنهم من اوقعه الفقر فلم يعد يهتم لقدح او مدح او ينتظر من كاظمي او غيره فرحا ومخرجا، فنسبة الفقر العالية عراقيا قد تقود لعنف قادم.
لكنني لم اجد اقسى من قدح كتائب حزب الله عليه، ولم اجد امدح من جيل فيسبوكي جديد يروج له بكثافة ، وهناك من يقف بين الصفين متابعا خطوات الكاظمي الرمادية. لكن لابد من القول أن الكاظمي كان أول رئيس وزراء يصل للسلطة دون إنتخابات (وهذا قد يكون عملياً (إنقلاب فني)، كما انه دون إنتماء لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي( وهذا دليل آخر على (إنقلاب فني). كما إن الكاظمي هو أول من إقتحم من رؤرساء الوزراء في عراق ٢٠٠٣، معسكراً لأشرس مليشيا من مليشيات الحشد( كتائب حزب الله) وهذا قد يُعدُّ دليل ملموس على مسار إنقلابات الكاظمي الفنية، ولذلك لم يتاخر ربما الإنقلاب الفني المُعاكس لكتائب حزب الله فكان إقتحام الخضراء الفوري.
كما إن إنطلاق الحوار الأميركي العراقي بجولته الأولى من جهة وربط كهرباء العراق بالخليج من جهة اخرى، قد يعد جولة ثانية من جولات الحرب( إنقلاب فني ) على سلطة عطلت إتفاقية الإطار الإستراتيجي و قرر نوابها إخراج القوات الأميركية، وضدها كان الإنقلاب الفني المُضاد بتعطيل زيارة الكاظمي للرياض و واشنطن. فإيران ترفض من حكومات بغداد أن تتجاوز خطوطها الحمر، وتريد منها أن تكون وكيلة عنها، وهذا ما فعلته كل حكومات أحزاب الإسلام السياسي الشيعي مُنذ الجعفري حتى عادل عبد المهدي، فلما شعرت إيران أن الكاظمي قد يمثل خطاً آخر رفعت الكارت الأحمر.
و ربما جاء كارت إيران الأحمر في ظل سياق مُتصاعد ضدها تخلله إنفجارات شملت عدة مواقع إيرانية نووية و صاروخية و مرافق طاقة و غيرها، دفع إيران للرد، ليس ضد الكاظمي فحسب، بل ضد الموجة التي تستهدف زيادة السخط الشعبي الداخلي في إيران. كما إن إقتحام أحد معسكرات كتائب حزب الله ليلة ٢٦-٦-٢٠٢٠ قد تزامن مع قصف إسرائيلي لمواقع إيرانية في سوريا من جهة، و من جهة أُخرى مع أول إنفجار يقع هذا العام داخل إيران. فقد ذكر موقع “إيران إنترناشيونال” أن عدد من سكان شرقي العاصمة الإيرانية طهران شاهدوا ضوء برتقالي ساطع أضاء السماء بضع ثوانٍ، فجر الجمعة 26 يونيو 2020.
و تزامن الحدث السوري و الإيراني مع حدث إقتحام أحد مُعسكرات كتائب حزب الله ببغداد، ربما وضع الكاظمي في دائرة المنقلبين على مسار نخبة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكمة، فكان إقتحام الخضراء الفوري هو الرد. وقد كشف تقرير لوكالة فارس الايرانية، عن الذي اسميناه الحروب على السلطة والانقلاب عليها فقال ان هناك مخطط لانقلاب في العراق (بانامل صهيواميركية وبمباركة سعودية) للاطاحة بالنظامين السياسي والديني على حد سواء”، بحسب ما جاء بالتقرير. و إن صح هذا التنظير لحقبة الحروب على السلطة في العراق( الإنقلابات الفنية) لإحلال نُخبة محل أُخرى، وبعيدا عن خطوات الكاظمي الرمادية، فإن هذه الحقبة قد تنقله لمرحلة ( الإنقلاب الثوري) المُحتمل في المرحلة القادمة.
فلكي ينجح إنقلاب القصر (الفني) الذي أتى بالكاظمي، فإن الكاظمي قد يحتاج أن يكون في بعض مراحله ثوريا، خاصة و إنه يواجه أحزاب و مليشيات دينية مسلحة عابرة للحدود وكيلة عن إيران، كما إن حدة التقلبات في المشهد المحلي و الإقليمي التي إزدادت تفتح بابا لإنقلاب ثوري. فبدون إنقلاب ثوري تدعمه إنتفاضة تشرين، قد لا يتمكن الكاظمي من إشغال بنية الهيكل الأساسي للسلطة وان خاض سلسلة حروب السلطة ضد النخبة الحاكمة ومليشياتها.
وهنا قد يتكرر المشهد السوداني في العراق، او المشهد التركي بالأحرى قبل ١٠٠ عام (رغم أن هذا مشهد تركيا يصلح لإيران اكثر)، كون إيران وتركيا دول متوسطة القوة، بخلاف العراق، إضافة لزعامة الطرفين لإمبراطوريات دينية عابرة للحدود. فقد قامت في السودان كما في تركيا ومن داخل السلطة حقبة (إنقلابات فنية وحروب على السلطة) تحولت مع ثورة الشباب الى إنقلاب ثوري حقق مراجعة كاملة للسلطة السياسية و إحلال لنخبة بدل النخبة الإسلاموية. والعراق وقد دخل حقبة الحرب على السلطة بإنقلاب و إنقلاب مُعاكس، قد يحتاج لمرحلة (إنقلاب ثوري)، ربما يعد الكاظمي نفسه له. فقد إستفاد الكاظمي مذ كان مديراً لجهاز المخابرات ولم يزل، من فرصة التعامل مع الساحة الدولية في حقبة محاربة داعش، وهو يعد نفسه مذ وصل للسلطة بهيكلة الأجهزة الأمنية.
وفوائد التواصل الدولي الأمني ضد داعش تعد قاعدة أساسية للكاظمي في الدخول بحذر وروية لحقبة محاربة المليشيات الدولية المتصاعدة منذ تصفية سليماني والمهندس. فقد أدت تصفية سليماني المهندس التي تتهمه بها كتائب حزب الله لليوم، مع إنتفاضة تشرين الى وصول الكاظمي للسلطة بإنقلاب فني، لكنه قد يحتاج الى حزام إنتفاضة تشرين المقهورة من المليشيات للإنتقال من حقبة انقلاب الفني الى حقبة إنقلاب ثوري. فدرجة المشاركة الجماهيرية ومدتها وعدد القتلى من المنتفضين قد يمنح الكاظمي ربما فرصة النجاح مع قدرة تمسك عالية يحتلجها للإنتقال من الإنقلاب الفني للثوري.
إنقلاب ثوري يحقق فيه الكاظمي أهدافه في إحلال نخبة عراقية محل نخبة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، كما جرى في السودان او في تركيا قبل ١٠٠عام. وتبقى المدة اللازمة لنجاح او فشل احد الطرفين المتعاكسين خاضعة لعوامل عدة، منها مثلا علاقة النخبة الحاكمة بالإنتفاضة و زيادة حدة الإستقطاب بين الطرفين. فقد تزداد بزيادة الإستقطاب بين الطرفين حالة العداء ، وقد يمنع هذا العداء من احتمال دخول الطرفين في مفاوضات تسوية، وان حصلت فقد تنتهي بفشل الكاظمي.
وفشله وارد اذا ادركنا تحكم النخبة الحاكمة من جهة، واختراق الإنتفاضة من جهة أُخرى، كما إنّ أهدافها مختلفة من محافظة لإُخرى، مما قد يجعلها فريسة لقتل و إعتقال و تغييب و تشتيت النخبة الحاكمة كما جرى لها منذ اكتوبر٢٠١٩. لكن الظروف المتقلبة محلياً و إقليماً و دولياً قد تُبعده عن الفشل و تمنحه فرصة نجاح نسبي او العكس( في ظل اعادة تشكيل المنطقة بعد داعش وفق تقرير اوليبرايت هادلي).فأذا وظّف الكاظمي فرص الاجواء التي جاء بها محليا ودوليا قبل وبعد الانتخابات القادمة ، وقبل وبعد انتخابات الرئاسة الاميركية، فقد يكون حليفا محليا مناسبا للتحالف الدولي للخروج بالعراق من بوتقة احزاب الاسلام السياسي الشيعي، وإلاّ فإن الإنقلابات المعاكسة قد تطيح به خارج التغطية.
الكاتب د.عمر عبدالستار محمود