حلقات يوميه على اليوتيوب
حين نقارن عالم 1918 و 2018، نجد أنَّ هناك بعض من أوجه الشبه ومن أوجه المخالفة في المشهد العربي والشرق أوسطي والمشهد الدولي.
فحين إحتفل زعماء عالم 2018 بذكرى 100 عام لإنتهاء الحرب العالمية الاولى، إحتفلوا وهم يعيشون مؤشرات نهاية عالم مابين الحربين، و يهمّون ربما بدخول حقبة دولية جديدة، قد يغادرون بها عالم مابعد الحرب العالمية الثانية.
وقد برهن وجود بوتين الذي سرق بمكرٍ أضواء الإحتفال من ماكرون على هذا الإنتقال المحتمل، و عزَّز ترمب بتغريدته ضد ماكرون في يوم الاحتفال هذه ، سرقة بوتين للأضواء، وأكَّد مسلسل الإنتقال المحتمل من حقبة 2018 حين ربط بتغريدة واحدة عالم 1918 و 1939 و 2018.
فقد ردَّ ترمب على مقترح ماكرون في بناء جيش اوروبي لحماية أوروبا ضد الولايات المتحدة والصين وروسيا فقال، “انّ ألمانيا هي من حاربتكم في الحرب الأولى والثانية، فكيف كانت فائدة هذا الجيش لفرنسا؟ لقد بدأتم تعلم الألمانية في باريس، قبل قدوم الولايات المتحدة، فإدفع للناتو ياماكرون أو لا حماية أميركية”.
تغريدة ترمب هذه ربطت بمكر أيضا، بين عالم ماقبل الحرب الاولى ومابعدها وبين عالم مابعد الحرب الثانية وعالم اليوم الذي تشير تغريدة ترمب ومقترح ماكرون الى أنَّ العالم اليوم يوشك أن يغادرها، كما أكدت عدم إنكفاء أميركا عن الحقبة القادمة مثلما إنكفأت في عالم مابين الحربين.
والإنتقال الدوري من حقبة دولية الى آخرى في ظرف مائة عام، يطرح أسئلة جوهرية على مستقبل النظام العالمي و أسسهُ المرجعية، فقد حذّر أمين عام الامم المتحدة في الإجتماعات السنوية للأمم المتحدة، من أنّ النظام العالمي اليوم يزداد فوضوية.
و السؤال المهم هو: هل إنَّ النظام الدولي يواجه مُفترق طرق، دفع ترمب اليوم لقيادته في مرحلة خطيرة بعيداً عن خيارين خَطِرَين: الإنكفاء الأميركي أو الفوضى، فكلاهما قد يقود العالم الى حرب عالمية ثالثة و هو الخيار الأخطر.
و الجواب هو نعم إنَّ عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد يدخل عالم فوضى بلا حدود، إن إنكفأت أميركا على نفسها، أو تركتهُ يدخل هذه الفوضى، إنْ لم تتداركه بإنتقال تحت السيطرة من حقبة الى حقبة آخرى.
فالعلاقات الدولية تتغير وفقا لتغير وحدات و أنماط و علاقات و محاور النظام الدولي، حين تطرأ عوامل تصلح أن تكون علامة على بداية فاصلة تأريخية تنقله من حال الى آخر.
و عادة ما تكون التغيرات على النظام الدولي مَردّها لتطور غير متوقع تغير طبيعة النظام الدولي او تتغير أهداف رئيسة لوحدات النظام أو تغير فى نمط و شكل الصراع بين و حدات مشكّلة للنظام.
فلوفرة كل شي وإنتقاله عبر الحدود و لتطور العقول و إضمحلال القوة من الجيوش للعصابات، تقول نظريات عدم القدرة على السيطرة، بتغير النظام الدولي.
كما إن نظرية البجعة السوداء تتوقع ما لا يتوقع، فيتغير النظام الدولي كما تغير سابقاً بالأنترنيت و النووي و قوانين الحركة من قبل.
و نظرية المجموعة الصفرية تقول بالفوضى و غياب القيادة العالمية و الصدام الصفري المتوقع الذي قد يأتي في سياق تخلي أميركا عن دورها ( الانكفاء).
بعد هذه المقدمة، ندلُف للحديث عن أوجه التشابه والإختلاف بين عالم 1918 و 2018، فمن الظواهر المهمة التي يتشابه بهاعام 2018 مع عالم 1918، هو طريقة تعاطي السياسة الدولية المتشابه مع العثمنة أمس والأيرنة اليوم، وتصاعد النزعة الوطنية ضد عالم إمبراطوريات 1918 وعولمة 2018.
و فيما نجد الخُبراء منقسمين في تفسير هذا التعاطي ، نجد ان السياسة الدولية لم تعتبر العثمنة امس ولا الأيرنة اليوم جزءاً من السياسة الدولية الإ عمليا.
فلم تدخل العثمنة ضمن المنظومة الأوروبية في إتفاق معروف سوى إتفاق باريس 1856، الذي أنهى حرب القرم بين الروس من جهة، وبين تحالف بريطاني فرنسي عثماني نادر.
و مثل العثمنة فشلت الأيرنة منذ 1979 في عقد أي إتفاق دولي، بل عاشت في ظل حزم عقوبات، ما إن تخرج منها حتى تعود إليها، بإستثناء إتفاق لوزان 2015 مع مجموعة 5+1، الذي إنسحب منه ترمب في 2018.
و رغم فشل العثمنة و الأيرنة في الإندماج في المجتمع الدولي، الإّ إنَّ التعاطي العملي للسياسة الدولية، و الغربية منها على وجه الخصوص، قد منح العثمنة قرنين من الزمان، و الأيرنة عقوداً أربعة، رغم عوامل الضعف الداخلي و الخارجي الذي عانى منه الطرفين.
و رغم إنَّ الأوروبيين و الروس، كُلاًّ على حدة كانوا ينتظرون فرصة تقاسم تركة (الرجل المريض)، خصوصا بعد الحرب الروسية التركية في 1774، فإن الخلاف الأوروبي-الأوروبي ( الفرنسي والبريطاني) من جهة، و الخلاف الأوروبي الروسي من جهة آخرى، قد تسبب في منح العثمنة عمراً طويلاً، رغم عوامل تفكك العثمنة.
و كما دعم الأوروبيون العثمانيين ضد الروس، فقد وقفت بريطانيا ضد الحملة الفرنسية على مصر، ودعمت السلطنة ضد محمد علي، الذي حاول غزو القسطنطينية فكان صلح كوتاهية 1833.
و وقوف الأوروبيون مع العثمانيين كان لحاجة أوروبية خالصة ( بريطانية بالأساس) لحفظ توازن القوى الأوروبية، كما فعلت أميركا حين قبلت بالخميني بديلاً عن حليفها الشاه بعد ثورة 1979، أو كما يفعل الإتحاد الأوروبي اليوم حين يخالف ترمب في عقوباته ضد إيران.
لكن حين إنتفتْ حاجة الغرب للعثمنة و إنسحب الروس بسبب الثورة البلشفية، و تحالفت الدولة العثمانية مع الألمان، ودخلت أميركا المعركة، وحانت الفرصة لتغير نظام ماقبل الحرب العالمية الأولى، إنهارت العثمنة و إمبراطورية النمسا.
و ربما يتكرر المشهد العثماني مع إيران اليوم و قد حانت فرصة دولية لتغيير نظام ما بعد الحرب الثانية، بإنتهاء حاجة بعض دول (5+1) او جميعها لإيران، في الوقت الذي يحارب فيه ترمب لعزل إيران عن دول العالم مالياً و نفطياً.
و من المحطات المتشابهة بين عالم ما قبل الحرب الأولى و عالم اليوم، هو صعود النزعة الوطنية و القومية و عالم الدولة الأمة ضد العولمة و الأيرنة، كما كان الحال ضد العثمنة و عالم الأمبراطوريات، بعد أن تهدد أو يكاد نموذج الدولة الأمة الذي جاءت به إتفاقية ويستفاليا 1648.
و كما هو عالم اليوم في ظل العولمة و الايرنة، فإنّ قليلا من الدول الأوروبية كانت ذات سيادة حين قامت الحرب العالمية الأولى، في الوقت الذي كانت العثمنة تُهيمن على أغلب بلدن الشرق الأوسط.
و إن كانت ثورة اليونان أحد الأمثلة الأوروبية عن تصاعد روح الإستقلال بدعم أوروبي عن الدولة العثمانية في 1832، فولادة الدولة السعودية الأولى و الثانية و الثالثة و الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين بالتحالف مع بريطانيا العظمى، مثال على تصاعد روح الإستقلال في الشرق الأوسط.
لكن الخلفيات الفكرية للتمرد العربي قد إنقسمت ضد العثمنة فمنها من أكد أن سلاطين العثمانيين ليسوا خلفاء شرعيين، و أن الخلافة الإسلامية من حق العرب و يجب أن تعود إلى العرب، و منها من آمن بحدود و مفهوم و نموذج الدولة الامة خارج نطاق أي خلافة.
و في الوقت الذي أخذت السعودية و الأردن بنموذج الدولة الأمة ثم لحقت بهم مصر بعد كمب ديفيد، فشل هذا النموذج في العراق و الشام بسبب خلفية فكرة الخلافة من جهة، و ظهور فكرة إسرائيل الكبرى و كوردستان الكبرى، و عودة فكرة الخلافة الإسلامية على يد عوامل الإسلام السياسي و الجهادي السني و الشيعي، ثم كانت العولمة.
و قد دفعت هذه الظواهر الأممية الى تصاعد نزعة يمينية عالمية تُطالب بالحفاظ على الهويات الوطنية و القومية ضد عوامل اللادولة و العولمة تشبه النزعة القومية لعالم ما قبل إندلاع الحرب العالمية الأولى.
و إنْ كان عالم 1918 قد دفع العالم نحو نظام عصبة أمم، و الشرق الأوسط نحو إتفاق لوزان 1923 بنموذج دولة أمة بعيداً عن العثمنة، فعالم 2018 قد يدفع عالم اليوم نحو عصبة دولية جديدة، كما يدفع شرقنا الأوسط من جديد لترسيخ الدولة الأمة بلوزان آخر، بعيداً عن حقبة الأيرنة.
وقد تكمن أوجه إختلاف عالم 1918 و 2018، في عدم انكفاء أميركا اليوم، بعكس مافعلت بعد عالم 1918، وفي تغيّر مشهد الشرق أوسط 2018 عن شرق أوسط 1918، سواء فيما يخص إسرائيل التي ولدت بوعد بلفور وسايكس بيكو، أو في مشهد النزاع العربي العربي الذي تبِع ذلك.
فكما شهد القرن العشرين نزاعاً دوليا على شكل النظام الدولي والشرق أوسطي، شهد نزاعاً عربياً عربيا، ونزاعاً عربياً إسرائيليا كصدى للنزاع الدولي في مرحلة الحرب الباردة أو بعدها.
فعالم 2018 يشهد ربما أو يكاد إنتهاء النزاع العربي العربي والنزاع العربي الاسرائيلي، بعد أن إنتصر نموذج الدولة الأمة الذي تبناه ملوك العرب على نماذج العرب الثورية القومية منها والدينية.
فالنماذج القومية التي تحالفت مع السوفيت وتنازعت مع ملوك العرب وإسرائيل لصالح السوفيت، إنتهت بكامب ديفيد 1978، و نماذج العرب الدينيةالتي تحالفت مع ولاية الفقيه، تواجه منذ 2011 حتى اليوم، إستهدافا دوليا وإقليميا ومحليا غير مسبوق.
وقد أدى تحكم الولايات المتحدة باتجاهات البوصلة الدولية، الى إنتهاء النزاع العربي العربي والعربي الإسرائيلي، وتقارب الطرفين العربي والإسرائيلي في مواجهة حقبة الأيرنة تحت رعاية الولايات المتحدة، مثلما فعل اليهود وملوك العرب قبل 100 عام لمواجهة العثمنة برعاية بريطانيا العظمى.
وخلاصة أوجه التشابه والأختلاف بين عالم 1918 و 2018، أنها قد تُؤشر لأمور أساسية منها، أن الصراع على نموذج النظام الدولي وعلى أوروبا والشرق الاوسط أيضا هو صراع روسي غربي.
وأن الروس هم مشروع حرب يتمدد خارج الحدود في كل إتجاه، بخلاف الولايات المتحدة التي نجح نموذجها المولود في 1789 والذي دخل المشهد الدولي أول مرة في 1917، في التحكم بتوجهات البوصلة الدولية.
و أخيرا وليس آخرا فشل نماذج العقليات والمنظومات والأنظمة الثورية الإسبتدادية العابرة للحدود، سواء كانت فكرية أوقومية أودينية، محلية ،إقليمية أو دولية، عربية، كوردية، إيرانية، المانية أو روسية، في مواجهة التدافع البشري الذي تعولم، سواء كان هذا التدافع مع العولمة أو ضدها.
الكاتب د.عمر عبدالستار محمود