حلقات يوميه على اليوتيوب
فلندا إبنة بحر البلطيق وتعرف بالأرض المحايدة، عاصمتها هلسنكي، وقد منحها البلاشفة عام 1917 حق تقرير المصير ولم تنتمي للناتو، وقد جمعت الولايات المتحدة وروسيا بوثيقة إنفراج الحرب الباردة.
وقد تزايد اهتمام هلسنكي بتحولات وإضطرابات الشرق الأوسط، خلال السنوات الأخيرة، فانعكس في تدشين معاهد أكاديمية خاصة به، وترتيب زيارات وفود دبلوماسية وبرلمانية، وتنظيم أنشطة مع مراكز بحثية، وطرح وثائق لتسوية أزمات وتعميق التعاون مع أجهزة استخباراتية عربية.
و يُعدُّ الشرق الأوسط مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية و حتى الحرب السورية، مكان مناسب لهلسنكي كونه أسوأ بؤرة لعدم الإستقرار في العالم، فهو الإقليم الجيوسياسي الوحيد في العالم الذي لا يمتلك منظومة أمن و تعاون إقليمي.
و قد يؤكد لقاء بوتين بترمب على أبواب إنتهاء الحرب السورية بهلسنكي في السابع عشر من تموز الماضي هذا المعنى، وقد يشبه أيضا لقاء روزفلت بستالين وتشرشل في شباط 1945 في يالطا على أبواب إنتهاء الحرب العالمية الثانية.
و وجه الشبه قد يعود الى أنّ النظام الدولي قد إنتقل في لقاء يالطا الى ثنائي القطبية بين السوفيت و الأميركان، كما إن النظام الدولي بعد لقاء هلسنكي قد ينتقل من أُحادي الى ترويكا دولية جديدة.
و كمحطة في طريق طويل، مرَّ النظام ثنائي القطبية بمحطة هلسنكي في آب 1975، حين جمعت منظومة الأمن و التعاون الأوروبي دول المحور السوفيتي و الأميركي في منظومة واحدة، قبل أن ينهار السوفيت و تتوحد دول اوروبا في الإتحاد الأوروبي 1992.
ولم يغفل الاتحاد السوفييتي دور هلسنكي 1975 في تقويض حلف وارسو 1991بعد سقوط السوفييت وانهيار جدار برلين 1989 وظهور الاتحاد الأوربي الذي كان ينمو ببطء منذ تشكيل شركة الحديد والفحم الاوروبية 1953.
فهل سيغفَل بوتين دور هلسنكي القادمة، التي ستجمع الدول التي دخلت تحت عباءة روسيا مع الدول التي دخلت تحت عباءة أميركا، لتُسفر بعد حين عن منظومة شرق أوسطية جديدة بعيدة عن الروس تشبه الاتحاد الاوروبي؟.
قد يتغافل بوتين وهو يدرك أنّ المرور الأوروبي و الشرق أوسطي المتكرر بهلسنكي، يكشف عن صراع روسي غربي على الزعامة الدولية و على النفوذ في الشرق الأوسط و أوروبا و الذي إستمر مُنذ إنطلاق اللعبة الكُبرى بينهما في 1829 حتى 2018.
و قد أدى هذا الصراع الروسي الغربي الى فوضى أوروبية إستمرت حتى سقط السوفيت و المشروع الأوراسي السوفيتي و ظهر الإتحاد الأوربي، و فوضى شرق أوسطية لم تزل مستمرة منذ 1920 و الى إشعار آخر.
فروسيا و هي تُنافس الغرب على الزعامة الدولية، تصر على الاّ تُسيطر قوة واحدة على أوروبا و الشرق الأوسط، في حين تصر أميركا على الاّ يكون للروس او غيرهم دور في أوروبا و الشرق الأوسط، فضلاً على منع روسيا من منافسة أميركا على الزعامة الدولية.
و قد ورث الروس كابراً عن كابر في صراعهم مع الغرب ثلاثية مكنتهم من المطاولة في لعبتهم الكبرى و هي، قُدرة على التمدد في كل إتجاه، و عدم الأمان المطلق، و نموذج ثوري إستبدادي عابر للحدود قادر على أن يشعل حروبا بلاحدود.
و رغم إنهم فقدوا السيطرة السياسية و الأمنية على أوروبا في نهاية الحرب الباردة، فقد ظلوا يحتكرون حاجة اوروبا للطاقة الروسية و منعوا طاقة الشرق الأوسط من الوصول لأوروبا من خلال وجودهم في سوريا.
فسوريا هي واسطة عقد الطريق الواصل بين أوروبا و الشرق الأوسط، و هي واسطة عقد إيران و روسيا التي إن فُقد أحدهما او كلاهما وجوده في سوريا فقد يفقد دوره في الشرق الأوسط، و قد يرتدُّ أثر ذلك على نظام كل منهما.
و الشرق الأوسط من جهة أخرى هو خزان الطاقة الدولي الوحيد القادر على كسر إحتكار روسيا لخطوط و سعر الطاقة الروسية لأوروبا، و من قد يكون لقاء هلسنكي بين ترمب و بوتين، تمهيداً لمحطة شرق أوسطية.
فقد قسَّمت سوريا الشرق الأوسط و الدول المُتصارعة فيها الى قسمين، دول محور استانا و دول محور جنيف، كما أثرت تداعياتها على مجلس التعاون الخليجي ، فظهر مايُسمى بالمحور القطري التركي الإيراني، كما و صلت أخيراً الى طريق مسدود.
فقد قال جميس جيفري مبعوث أميركا الى سوريا، ان على محور استانا و سوتشي أن ينتهي و نعود الى جنيف، إن لم تتشكل اللجنة الدستورية قبل الرابع عشر من كانون اول 2018، و على الروس أن يُقرروا بين أن تتحول سوريا لأفغانستان، او تولد من رحمها هلسنكي.
هلسنكي إذن محطة لا غِنى للروس عنها للخروج من الطريق المسدود، إذ تحصل على مكانة دولية، بدل أن تتحول سوريا الى أفغانستان ثانية، إن أصروا على عدم التخلي عن إيران و عدم الذهاب الى جنيف.
قد تحتاج روسيا الى غطاء عربي لخروج إيران من سوريا، بعد أن إحتاجت الى إسرائيل في إبعاد إيران عن الجولان، و لن يكون هذا الطرف العربي سوى السعودية التي دلت مصافحة بوتين مع محمد بن سلمان في قمة الأرجنتين على حاجة روسية ماسة .
و هذه الحاجة الروسية الماسة للسعودية، تقابلها حاجة سعودية لروسيا أيضا، في ظل إشكالات تواجه الطرفين مع الغرب (الديمرقراطي) داخل و خارج الولايات المتحدة.
هذه الحاجة الروسية في مجال النفط و النفوذ الشرق أوسطي تكشف ربما عن حاجة روسية للسعودية (أكبر) من حاجة السعودية لروسيا، و هذا قد يعفي السعودية من حُجّة التحالف مع الروس المرفوض أميركيا، و قد يمنح الروس فرصة الفوز بسوريا بلا إيران.
و حُجّة التحالف المرفوض أميركيا من أي طرف شرق أوسطي مع الروس سببه، إن هذه المنطقة حاسمة بشكل قاطع للغرب الذي لا يضمن حتى ترف الحياد لأي طرف شرق أوسطي في صراع الغرب مع الروس، كما إن الروس عاجزون عن الدفاع عن حليفهم في نهاية المطاف، كما يقول نوري السعيد.
كما أن التقارب الروسي السعودي قد يجمعهما و أميركا في سوريا ليس على خارطة طريق نفطية في حقبة تصفير صادرات إيران النفطية، بل على خارطة طريق سورية أيضا في حقبة تصفير وجود إيران في سوريا.
هذا التصفير المزدوج لإيران قد يفتح الباب لمحطة هلسنكي شرق أوسطية لامفر للروس منها، حتى لو فطنوا لمرامها الاميركي، و تبقى سوريا الى إشعار آخر مُقسمة بين الروس و الأميركان، كما بقيت المانيا مقسمة حتى سقط جدار برلين.
و إيران قد تقبل بهلسنكي و بشروط بومبيو إن ضمنت عدم التعرض لنظامها، بل قد تكون محطة هلسنكي غطاءاً روسيا يمنحها فرصة الحديث عن إنتصار رمزي هي بأمس الحاجة اليه.
و تبقى هلسنكي الشرق الأوسط المحتملة منصة تفاوض (غير مُلزمة) على سياسات محددة، و آلية بنفس الوقت من آليات حفظ توازن القوى، و محطة في طريق مفتوح حتى تتغير المعادلة ببن الروس و الأميركان.
الكاتب د.عمر عبدالستار محمود